لعل الميزة الكبرى التي ميز الله بها الإنسان على سائر مخلوقاته هي العلم والعقل, وإن كلا من العلم والعقل مرتبط أحدهما بالآخر غير منفصل عنه, ولقد خص الله سبحانه وتعالى سيدنا آدم أبا البشرية كلها بالعلم, وقد تمثل ذلك المعنى في قوله عز وجل: وعلم آدم الأسماء كلها (البقرة/31) وذلك في مجال تفضيله على الملائكة وحواره ـ جل وعلا ـ معهم واستخلافه إياه وأبناءه في الأرض.
ولما كان الإسلام هو الرسالة الخاتمة, ومحمد (هو خاتم الأنبياء والمرسلين, فقد اقتضت المشيئة الإلهية بأن تكون هذه الرسالة شاملة جميع الأحكام والتكاليف التي لم تتوفر في الرسالات والكتب التي سبقت الإسلام; فجاءت الرسالة الخاتمة متضمنة جميع التعاليم وسائر ألوان المعرفة التي تسعد الإنسان في دنياه وآخرته, وتجعله مؤهلا لخلافة الله في الأرض.
والمميزات التي تميزت بها الرسالة الخاتمة ـ وبالتالي تميز بها الإسلام ـ كثيرة لا تكاد تحصى, ولكن الميزة الكبرى في هذه الرسالة تتمثل في العلم, والحض عليه, والسعي في طلبه, وإلزام المسلمين بالإقبال عليه والاستمساك به, ومن ثم فقد كرمه الله بأن استفتح به كتابه الكريم في أول سورة نزل بها جبريل على محمد e في قوله عز وجل: " اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق, اقرأ وربك الأكرم, الذي علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم " (العلق/1ـ5 ) وهكذا كان العلم والتعلم آخذا مكان الصدارة في القرآن الكريم آخر الكتب السماوية, وفي رسالة الإسلام خاتمة الرسالات إلى يوم يبعثون.
وتأكيدا على التزام المسلم بالأخذ بأسباب العلم والمعرفة جاءت السورة الثانية في ترتيب نزول القرآن, مرتبطة أسبابها بالعلم الذي زاده الله تشريفا في تلك السورة فجعل استهلالها قسما به وذلك في قوله عز وجل: " نون والقلم وما يسطرون " وجعل جواب القسم تشريفا لرسوله وثناء عليه وذلك في قوله تعالى: " ما أنت بنعمة ربك بمجنون, وإن لك لأجرا غير ممنون, وإنك لعلى خلق عظيم " (القلم/ 1ـ4) فالمولى سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة بالحرف الذي منه تتكون الكلمة التي منها تتكون الجملة, والجملة . كما نعرف ـ هي حاملة العلم, ثم يكون القسم الثاني بالقلم الذي به يكتب العلم ويقيد, كل العلم, وليس علما بذاته, وهكذا نرى السورتين الأولى والثانية من القرآن الكريم ـ خاتم الكتب السماوية ـ موضوعهما الأساسي العلم ـ كل العلم ـ سواء أكان هذا العلم دينيا سماويا أم كان دنيويا مصدره العقل الإنساني.
ولقد حفل الكتاب العزيز بذكر العلم في آيات كثيرة مضيئة . وكل آيات القرآن هادية مضيئة . مثل قوله سبحانه:
ـ " أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون" (الأعراف 62)
ـ "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مس ني السوء"(الأعراف 188)
ـ " قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " ( يوسف 86)
ـ " ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض " (البقرة 107)
ـ "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم "(النساء 113)
ـ "ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن " (إبراهيم 38)
ـ " ولتعلمن نبأه بعد حين " (ص 88)
ـ " ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض" (المائدة 97)
ـ " لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب " (الإسراء 12)
ـ "وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " (البقرة 151).
ـ "ذلكم أزكى لكم وأطهر, والله يعلم وأنتم لا تعلمون " (البقرة 232).
ـ "قل إن الله لا يأمر بالفحشاء, أتقولون على الله ما لا تعلمون " (الأعراف 28).
ـ " قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون "(المؤمنون 84)
ـ " ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر, كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون"
(التكاثر1, 2, 3).
ـ " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد"
(ق 16)
ـ "فلم تحاجون ما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" (آل عمران 66)
ـ " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو, ويعلم ما في البر والبحر" (الأنعام 59).
ـ "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى, إنما يتذكر أولوا الألباب" (الرعد 19).
ـ " وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك" (الحج 54).
ـ "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام" (لقمان 34)
ـ "هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد " (إبراهيم 52)
ـ " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" (البقرة 26)
ـ "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية" (البقرة 118)
ـ "وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم " (البقرة 144)
ـ "والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " (الأنعام 114)
"قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين"(يس 26, 27)
ـ "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " (محمد 19)
ـ "واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين " (البقرة 194)
ـ "واتقوا الله واعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير" (الأنفال 40)
ـ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " (البقرة 32)
ـ "رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث " (يوسف 101)
ـ " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " (العنكبوت 43)
ـ "الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان" (الرحمن 1 ـ 4)
ـ "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " (آل عمران 7)
ـ " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين"(آل عمران 61)
ـ " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغيرعلم " (الأنعام 144).
ـ " نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم " (يوسف 76)
ـ "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد" (الحج 3)
ـ " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا "لقمان 15
إن آيات العلم في الكتاب العزيز تجاوزت ثمانمائة آية, هذا فضلا عن الآيات التي شملت الدعوة إلى العلم وإن لم تستعمل لفظه مثل مادة "عرف" و "بان" و "رأى" وغيرها وهي في أكثرها تعني العلم بأنواعه وفروعه من تكريم له وتمجيد لفضله وحض على اقتناصه وتكريم لأهله وتعظيم لعلم الله سبحانه خالق كل شيء, ولقد عمدنا فيما سجلناه من آيات أن تكون كل آية ذات موقع متميز وعرض متفاوت وهدف محدد حتى يتبين لذوي النهي مكانة العلم في القرآن الكريم كلام الله وكتاب الإسلام الخالد.
ومثلما اتضح موقف القرآن الكريم من العلم, فإن موقف السنة الشريفة بداهة ـ هو نفسه موقف القرآن, فالإسلام يستمد أحكامه من الكتاب والسنة مجتمعين, وإن ما أجمله القرآن من أحكام قامت السنة بتفصيله وتبيينه, مثلما هو الحال في العبادات, مثال ذلك أن القرآن الكريم حمل التكليف بإقامة الصلاة, أما تفصيلات أدائها ابتداء من الاستعداد لإقامها بالطهر والوضوء والنية والتكبير والتلاوة والركوع والسجود والتشهد والتسليم, فإن ذلك كله قد جاء موضحا في السنة الشريفة, في قول الرسول e: " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقد كان هذا الحديث هو ردى . في أحد المؤتمرات .على من أنكر السنة, وكانت شخصية مشهورة من الحكام العرب قد أنكر السنة في كلمته التي افتتح بها المؤتمر, واردفت بعد ذكر حديث رسول الله e قائلا: " لولا السنة ما صلينا, هذا فضلا عن حجج أخرى سقناها يومئذ, وتمخض عن هذا الرد تداعيات تضمنت بعض الإساءات ليس هنا موضوع لذكرها.
نعود إلى السنة الشريفة, وقد قال عنها يحيى بن معين في أسلوب متشدد: السنة حاكمة على الكتاب فرد عليه الإمام أحمد . وكانا صديقين . قائلا: أنا لا أقول ذلك, وإنما أقول إن السنة مبينة للكتاب مما يدل على أدب الإمام أحمد في تعامله مع كل من الكتاب والسنة.
فالكتاب العزيز مجد العلم من أول آية نزلت, واحتل العلم بضعا وخمسين, وثمانمائة آية على ما أسلفنا في صفحة سابقة, وانتقل الرسول من تمجيد العلم والحض على طلبه إلى درجة أعلى من ذلك حين جعل طلبه فريضة على المسلمين جميعا, ذلك في قوله الشريف " طلب العلم فريضة
بذلك صار طلب العلم فريضة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد, ولكنه فرض كفاية في حالات بعينها, ولا نزال نكرر أن المقصود بالعلم الذي تضمنته الآيات القرآنية والسنة النبوية هو العلم بكل فروعه وأشكاله وأهدافه.
ففي العلم يقول رسول الله e: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة" رواه مسلم.
"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم.
"الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه ـ أي طاعة الله ـوعالما ومتعلما" رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
"من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع" رواه الترمذي وقال ": حديث حسن.
"فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم".
"إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير" رواه الترمذي وقال حديث حسن.
"من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة . يعني ريحها" رواه أبو داود بإسناد صحيح.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "سمعت رسول الله e يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يبق عالما, اتخذ الناس رءوسا جهالا "فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" الترمذي باب العلم 2673, ومتفق عليه
إن ما عرضناه من دراسة وأمثلة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية في الفصل السابق, تفيد أن العلم الذي ذكر في طياتها هو العلم العام, وهو . مثله في ذلك مثل العلم الديني . ما يعنيه الإسلام من تعلمه والسعي إلى طلبه, وربما فسرت بعض الأحاديث التي ذكرناها العلم الديني مع العلم العام المطلق, غير أن عددا آخر من أحاديث رسول الله قد استهدفت طلب العلم الديني والسعي في طلبه, ويجيء في مقدمة هذه الأحاديث قول رسول الله e : "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي,ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".
وليس من شك في أن هذا الحديث الشريف مستلهم من قول لله سبحانه وتعالى في هذا الشأن: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة, فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " (التوبة/ 122).
والعلم الديني مقدم بطبيعة الحال على سائر فروع المعرفة لأن أوليات التعاليم الدينية هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله, والإيمان بالله الواحد وبمحمد نبيا ورسولا وبالقرآن كتابا نزل به الروح الأمين على قلب محمد خاتم المرسلين, وإن علما آخر أيا كانت قيمته مرجوحا بعلم الدين الذي يهئ الإنسان للحياة المثلى في الدنيا ولحسن الجزاء في الآخرة.
وتحتل أحاديث رسول الله e التي اختص بها القرآن الكريم وفضائله دراسة وحفظا وتلاوة وتفسيرا مكان الصدارة بين سائر أحاديثه, وفي ذلك يجيء قوله الشريف: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليه السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة, وذكرهم الله فيمن عنده" رواه مسلم.
وقوله : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" رواه البخاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة, والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" متفق عليه.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي e قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال : "من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة, والحسنة بعشر أمثالها, لا أقول ألم حرف, ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
ومن أحاديث العلم الديني ." بعد أحاديث القرآن الكريم . قوله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفهمه,وإنما العلم بالتعلم ".
"قوله (عن زيد بن ثابت: "نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه, فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه, ورب حامل فقه ليس بفقيه " عن سنن أبي داود 2 (كتاب العلم)
وقال(:"من طلب العلم كان كفارة لما مضى"(الترمذي كتاب العلم,باب(2) 2648.
عن أبي سعيد الخدري عن النبي e قال: " يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون, فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيرا, قال: فكان أب و سعي د إذا رآنا قال: بوصية رسول " الترمذي الحديث رقم 2651.
وإذن فالعلم الديني وقد جاء الحض على تعلمه صريحا, صارت له خصوصية,بتوجيه من كل من القرآن الكريم والسنة النبوية, وصار الغاية التي يسعى في طلبها جمهرة الصحابة, ومن بعدهم انعقدت رئاسته على التابعين الذين قاموا بمهمتهم على أتم وجه وأكمله, ويستطيع الدارس أن يقع على المدارس العلمية العديدة التي أنشأها التابعون من أمثال الحسن البصري 21 ـ 110 هـ وجابر بن زيد 20 ـ 93 هـ وسعيد بن المسيب الذي كان يلقب بسيد التابعين 12 ـ 94 هـ وعامر الشعبي 19 ـ103 هـ وإبراهيم النخعي 46 ـ 96, ونافع مولى عبد الله بن عمر وعطاء بن رباح 27 ـ 117 هـ وسعيد بن جبير 45 ـ 95 وغيرهم كثيرين.
كان هؤلاء وغيرهم يعيشون في نور القرآن الكريم الذي يحث المسلمين على التفكر فيما خلق الله, وكلما ازداد المسلم تفكيرا مستهديا بما نزل به الروح الأمين ازداد إيمانا مثل قوله عز وجل: " الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض, ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار" ويمضي المسلم متابعا قوله تعالى:" ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار, ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا, ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ".
لقد كان هذا الجيل من التابعين يعيش العلم الإسلامي فيما يقرأه ويسمعه من الآيات التي تنير فكره بما يعمق إيمانه فيزداد إقبالا على العيش في نور ما لم يألف سماعه من معجز القول ومفحم الخطاب مثل قوله تعالى: " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا, ثم لتبلغوا أشدكم, ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا, وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج " (الحج/ 5).
ويقرأ المسلم آيات أخرى تبهر عقله وتنير قلبه فيصير إما عالما وإما متعلما, فقد عرف من حديث رسول الله e أن طلب العلم فرض عليه حتى في أيام الحروب حيث يتحتم أن يتخلف بعض ذوي العلم لكي يقوموا على تعليم إخوتهم من المسلمين.
وفي سرعة غير مسبوقة يتفرع فريق من علماء المؤمنين لتفسير القرآن الكريم ويجلس فريق آخر لتعليم فقه الإسلام.
فأما فريق المفسرين فكانوا امتدادا لما قام به الصحابي الجليل عبد الله بن عباس من محاولات وصلت إلينا تحت مسمى "تنوير المقباس من تفسير ابن عباس, ولم يكن إقبال ابن عباس على تفسير القرآن أمرا غريبا, فالقرآن الكريم هو كلام الله عز وجل حمله الوحي الأمين ونزل به على محمد e ومن ثم فهو كتاب الإسلام الذي منه تستمد الشريعة وتؤخذ الأحكام, وهو الكتاب المعجز الذي تحدى العرب . وهم قمم البلاغة . أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا, وكان عجزهم عن ذلك سببا لإسلام أكثرهم بلاغة وأوفرهم فهما وعدلا.
على أن ثمت مجموعة من التابعين عرفوا بجهودهم في تفسير الكتاب العزيز, ولكن آثارهم في هذا الشأن لم تصل إلينا مثل مجاهد بن جبر 29 ـ 104 هـ وسعيد بن جبير, وطاووس بن كيسان المتوفي 106 هـ , وأبي عمرو عامر الشعبي وعطاء بن أبي رباح 27 ـ 74 ولكن الأمر المؤكد هو أن أول تفسير كامل للقرآن الكريم هو ما قام به مقاتل بن سليمان المتوفي سنة 150 هـ , وهي السنة التي توفى فيها الإمام أبو حنيفة, وهذا التفسير قام على تحقيقه صديقنا العالم الجليل الدكتور عبد الله شحاته وإن لم تهيأ له أسباب النشر حتى الآن.
ولأن تفسير القرآن ليس بالأمر الهين إذ أنه لا بد من توفر شروط بعينها فيمن يتصدى لتفسير الكتاب العزيز, لذلك قل عدد المفسرين إذا قورن بعدد المحدثين والفقهاء, أما وإن " التفسير " يجيء على رأس العلوم الدينية, فإنه يجمل بهذا البحث أن يسجل
أشهر المفسرين وأسماء . عناوين . تفاسيرهم على الترتيب الزمني حتى القرن العاشر الهجري.
ـ جامع البيان في تفسير القرآن للطبري المتوفى 310 ه
ـ بحر العلوم لأبي الليث السمرقندي المتوفى 375
ـ الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي المتوفى 427
ـ معالم التنزيل للبغوي الشافعي المتوفى 510
ـ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي المتوفى بالرقة سنة 546
ـ الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للزمخشري المتوفى بخوارزم سنة 583
ـ مفاتيح الغيب للفخر الرازي المتوفى سنة 606
ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي المتوفى بمدينة المنيا (مصر) سنة 671
ـ أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي المتوفى سنة 691
ـ مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي المتوفي 701
ـ لباب التأويل في معاني التنزيل للخازنالمتوفى 741
ـ البحر المحيط لأبي حيان الغرناطي الأندلسي المتوفى بمصر 745
ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير المتوفى 774
ـ غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري المتوفى على رأس المائة التاسعة.
ـ مجمع البيان لعلوم القرآن للطبرسى المتوفى 835
ـ الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي الجزائري المتوفى 876 ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي المتوفى 911
ـ تفسير الجلالين: المحلى للسيوطي
ـ السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير للخطيب الشربيني القاهري الشافعي المتوفى 977
تلك اشهر التفاسير القرآنية التي كتبت حتى نهاية القرن العاش ر الهجري ولكن مكتبة التفاسير القرآنية ثرية بعشرات التفاسير النفيسة على مسيرة التاريخ وبخاصة في القرن الرابع عشر الهجري المنصرم والأعوام العشرين التي انصرمت من هذا القرن الواحد والعشرين بعد الأربعمائة والألف.
وفي نطاق مسيرة العلم الديني يظهر علم السنة الذي يتمثل في جمع أحاديث رسول الله e وشروحها, وقد كان من أوائل من دونوها الإمام مالك في كتابه الجليل " الموطأ " باقتراح من الخليفة أبي جعفر المنصور العباسي ويليه كتاب " المسند " للإمام أحمد بن حنبل ثم ظهر بعد ذلك ما يعرف بالكتب الستة التي أشهرها " الصحيحان " وهما صحيح البخاري للإمام الحافظ إسماعيل البخاري المولود في بخارى سنة 194 هـ المتوفى سنة 259 هـ وصحيح مسلم للإمام الحافظ مسلم بن الحجاج القشيرى النيسابوري 204 . 261 هـ , وقد عكف على دراسة الصحيحين وشرحهما عشرات من كبار علماء الحديث غير أن أشهر من شرح صحيح البخاري هو الإمام الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني المصري 773 ـ852 بكتابه النفيس " فتح الباري في شرح صحيح البخاري " ويقع في واحد وعشرين مجلدا كبيرا, وشهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني 851 ـ923 في كتابه النفيس " إرشاد الساري في نشر صحيح البخاري " وأشهر من شرح صحيح مسلم الإمام الحافظ محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي في 631 ـ676 هـ ويقع في تسعة مجلدات.
وأما بقية الكتب الستة فهي: سنن أبي داود لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني 202 ـ 275 وسنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزويني المشهور بابن ماجه 207 ـ 275 هـ والجامع الصحيح للترمذي أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة 209 ـ 297 هـ وسنن النسائي لعبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي 215 ـ 303 هـ
هذا فضلا عن مئات كثيرة من الكتب التي ألفها علماء السنة من الحفاظ والرواة.
ويجيء بعد ذلك ما بذله الأئمة الفقهاء من أصحاب المذاهب التي اشتهرت بين الناس فاتبعوها في عبادتهم ومعاملاتهم وشئون حياتهم, وأشهرهم حسب الترتيب التاريخي الإمام زيد بن علي زين العابدين 122 هـ والإمام جعفر الصادق المتوفى 148 هـ وأبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام العراق المتوفى سنة 150 هـ وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام الشام المتوفى 157 والليث بن سعد إمام مصر المتوفى سنة 175 ومالك بن أنس إمام دار الهجرة المتوفي 179 هـ ومحمد بن إدريس الشافعي المتوفي بمصر سنة 204 هـ ثم أحمد بن حنبل إمام العراق المتوفى 241 هـ .
وهناك مذاهب فقهية لأئمة لم يكتب لفقههم أن ينتشر لأسباب هم غير مسئولين عنها مثل سفيان الثوري 161 هـ , وأبي ثور الكلمة محظورةي 220 هـ وداود الظاهري 270 وأبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير وكتابه المشهور في التاريخ ونحن غير ذوي قدرة على الاستطراد في الحديث عن العلم الديني وأئمته وعلمائه إذ ليس ذلك موضوع البحث المحدد ولكن نستطيع أن نسجل للعلماء الذين توفروا على التخصص في الموضوعات الثلاثة التي تناولناها كمثال على العلم الديني إنهم تبحروا في موضوعاتهم عمقا واتساعا بحيث أنشأوا ما قد اصطلح عليه بعلوم القرآن كما ابتكروا في " السنة " علما جديدا هو علم مصطلح الحديث, وهو علم غير مسبوق أدهش المستشرقين والدارسين في الإسلام من غير المسلمين بمنهجيته ودقته والمراتب التي وضعوها لرواية الأحاديث التي وصلوا بها إلى أربعة وستين نوعا (11, وقد تمخض علم مصطلح الحديث عن علم آخر هو علم الجرح والتعديل, كما وضعوا كتبا في مصطلح الحديث (12).
وقبل أن يضع علماء الحديث كتبهم في علم أصول الحديث, كان الإمام الشافعي قد سبقهم إلى وضع علم جديد هو علم أصول الفقه, وضع أسسه في كتابه القيم "الرسالة"
(13) ثم نسج على منواله كثير من علماء هذا الفن الدقيق,وقد أخذت دائرة العلوم الدينية في الاتساع فنشأت علوم من الأهمية الإسلامية بمكان مثل علم إعجاز القرآن وقد توسع المؤلفون فيه ابتداء من الإعجاز البلاغي إلى الإعجاز البياني إلى الإعجاز العلمي إلى الإعجاز الكوني (14).
ومن العلوم الإسلامية التي احتلت مكانا مرموقا عند المسلمين علم السيرة النبوية الذي ألفت فيه ألوان من الكتب المتنوعة النهج والمحتوى ثم تلا ذلك علم الحضارة الإسلامية الذي شارك فيه المستشرقون بالعديد من الكتب التي لم يخل بعضها من أخطاء مقصودة حينا وغير مقصودة حينا آخر.
لم يلبث علماء الدين,وقلوبهم مطمئنة إلى أن العلم في الإسلام يشمل العلم الديني والعلم العام أن فتحوا عقولهم وقلوبهم لأصناف المعرفة وأنواع العلوم,فنشطوا إلى الجمع بين العلم الديني والعلم الدنيوي إن صح التعبير.
إن الكندي (يعقوب بن إسحاق) المتوفى سنة 260 يعد من أوائل المسلمين الذين جمعوا بين الثقافة الإسلامية وعلوم الأوائل, فقد ندبه الخليفة المعتصم مؤدبا لولده أحمد وما كان المعتصم ليقدم على هذا الصنيع لولا ثقته في الكندي من زاوية المعرفة الإسلامية مضافا إليها العلوم الأخرى على اختلاف أنواعها, ومؤلفاته فيها تزيد عن ثلاثمائة كتاب, وهو أول عربي فرض نفسه على هذه العلوم ووجه الفلسفة وجهة إسلامية ومهد لها سبيل الانتشار بين العرب, ومكن للمسلمين من ولوج هذا الباب, وللكندي عدد غير قليل من الكتب المطبوعة التي تشمل علوم التنجيم وما هية العقل, والقول في النفس ورسالة في الموسيقى ورسالة نفيسة كتبها لأحمد بن المعتصم ومن علماء الإسلام (القرآنيين) الذين جمعوا بين العلم الديني والعلم الدنيوي استجابة لمفهوم عمومية العلم _ أبو حنيفة الدينوري المتوفى سنة282 هـ الذي كان مجمعا للثقافات, فهو نحوي, لغوي مفسر, راوية ثقة, وهو بالإضافة إلى ذلك حاسب منجم مهندس وكان ندا للجاحظ وكما عرف الجاحظ بكتابه البيان والتبيين والمبرد بالكامل وثعلب بالمجالس فقد عرف أبو حنيفة الدينوري بكتابه (النبات) وله كتاب في تفسير القرآن ودراسته في ثلاثة عشر مجلدا مع ورع وزهد وجلالة قدر (15) ومن كتبه: كتاب ما يلحن فيه العامة وكتاب الشعر والشعراء وكتاب الفصاحة وكتاب الأنواء وكتاب الجبر والمقابلة وكتاب البلدان وكتاب الأخبار الطوال (مطبوع) وكتاب إصلاح المنطق وكتاب القبلة والزوال وكتاب تفسير القرآن (16) فهو والأمر كذلك جمع بين الشريعة والفقه والبيان العربي, وبين فن المهندس وانفساح الجغرافي وثقافة المؤرخ وأوابر اللغوي.
وعلى نهج قريب من هذا سار أحمد بن سهل المعروف بأبي زيد البلخي المتوفى سنة 322 هـ أحد وجوه الثقافة الاسلامية واعلامها
ولما كان الإسلام هو الرسالة الخاتمة, ومحمد (هو خاتم الأنبياء والمرسلين, فقد اقتضت المشيئة الإلهية بأن تكون هذه الرسالة شاملة جميع الأحكام والتكاليف التي لم تتوفر في الرسالات والكتب التي سبقت الإسلام; فجاءت الرسالة الخاتمة متضمنة جميع التعاليم وسائر ألوان المعرفة التي تسعد الإنسان في دنياه وآخرته, وتجعله مؤهلا لخلافة الله في الأرض.
والمميزات التي تميزت بها الرسالة الخاتمة ـ وبالتالي تميز بها الإسلام ـ كثيرة لا تكاد تحصى, ولكن الميزة الكبرى في هذه الرسالة تتمثل في العلم, والحض عليه, والسعي في طلبه, وإلزام المسلمين بالإقبال عليه والاستمساك به, ومن ثم فقد كرمه الله بأن استفتح به كتابه الكريم في أول سورة نزل بها جبريل على محمد e في قوله عز وجل: " اقرأ باسم ربك الذي خلق, خلق الإنسان من علق, اقرأ وربك الأكرم, الذي علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم " (العلق/1ـ5 ) وهكذا كان العلم والتعلم آخذا مكان الصدارة في القرآن الكريم آخر الكتب السماوية, وفي رسالة الإسلام خاتمة الرسالات إلى يوم يبعثون.
وتأكيدا على التزام المسلم بالأخذ بأسباب العلم والمعرفة جاءت السورة الثانية في ترتيب نزول القرآن, مرتبطة أسبابها بالعلم الذي زاده الله تشريفا في تلك السورة فجعل استهلالها قسما به وذلك في قوله عز وجل: " نون والقلم وما يسطرون " وجعل جواب القسم تشريفا لرسوله وثناء عليه وذلك في قوله تعالى: " ما أنت بنعمة ربك بمجنون, وإن لك لأجرا غير ممنون, وإنك لعلى خلق عظيم " (القلم/ 1ـ4) فالمولى سبحانه يقسم في مطلع هذه السورة بالحرف الذي منه تتكون الكلمة التي منها تتكون الجملة, والجملة . كما نعرف ـ هي حاملة العلم, ثم يكون القسم الثاني بالقلم الذي به يكتب العلم ويقيد, كل العلم, وليس علما بذاته, وهكذا نرى السورتين الأولى والثانية من القرآن الكريم ـ خاتم الكتب السماوية ـ موضوعهما الأساسي العلم ـ كل العلم ـ سواء أكان هذا العلم دينيا سماويا أم كان دنيويا مصدره العقل الإنساني.
ولقد حفل الكتاب العزيز بذكر العلم في آيات كثيرة مضيئة . وكل آيات القرآن هادية مضيئة . مثل قوله سبحانه:
ـ " أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون" (الأعراف 62)
ـ "ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مس ني السوء"(الأعراف 188)
ـ " قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون " ( يوسف 86)
ـ " ألم تعلم أن الله له ملك السماوات والأرض " (البقرة 107)
ـ "وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم "(النساء 113)
ـ "ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن " (إبراهيم 38)
ـ " ولتعلمن نبأه بعد حين " (ص 88)
ـ " ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض" (المائدة 97)
ـ " لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب " (الإسراء 12)
ـ "وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون " (البقرة 151).
ـ "ذلكم أزكى لكم وأطهر, والله يعلم وأنتم لا تعلمون " (البقرة 232).
ـ "قل إن الله لا يأمر بالفحشاء, أتقولون على الله ما لا تعلمون " (الأعراف 28).
ـ " قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون "(المؤمنون 84)
ـ " ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر, كلا سوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون"
(التكاثر1, 2, 3).
ـ " ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد"
(ق 16)
ـ "فلم تحاجون ما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" (آل عمران 66)
ـ " وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو, ويعلم ما في البر والبحر" (الأنعام 59).
ـ "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى, إنما يتذكر أولوا الألباب" (الرعد 19).
ـ " وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك" (الحج 54).
ـ "إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام" (لقمان 34)
ـ "هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد " (إبراهيم 52)
ـ " فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم" (البقرة 26)
ـ "وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية" (البقرة 118)
ـ "وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم " (البقرة 144)
ـ "والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق " (الأنعام 114)
"قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين"(يس 26, 27)
ـ "فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك " (محمد 19)
ـ "واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين " (البقرة 194)
ـ "واتقوا الله واعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير" (الأنفال 40)
ـ قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا " (البقرة 32)
ـ "رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث " (يوسف 101)
ـ " وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون " (العنكبوت 43)
ـ "الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان" (الرحمن 1 ـ 4)
ـ "والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا " (آل عمران 7)
ـ " فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين"(آل عمران 61)
ـ " فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغيرعلم " (الأنعام 144).
ـ " نرفع درجات من نشاء وفوق كل ذي علم عليم " (يوسف 76)
ـ "ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد" (الحج 3)
ـ " وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا "لقمان 15
إن آيات العلم في الكتاب العزيز تجاوزت ثمانمائة آية, هذا فضلا عن الآيات التي شملت الدعوة إلى العلم وإن لم تستعمل لفظه مثل مادة "عرف" و "بان" و "رأى" وغيرها وهي في أكثرها تعني العلم بأنواعه وفروعه من تكريم له وتمجيد لفضله وحض على اقتناصه وتكريم لأهله وتعظيم لعلم الله سبحانه خالق كل شيء, ولقد عمدنا فيما سجلناه من آيات أن تكون كل آية ذات موقع متميز وعرض متفاوت وهدف محدد حتى يتبين لذوي النهي مكانة العلم في القرآن الكريم كلام الله وكتاب الإسلام الخالد.
ومثلما اتضح موقف القرآن الكريم من العلم, فإن موقف السنة الشريفة بداهة ـ هو نفسه موقف القرآن, فالإسلام يستمد أحكامه من الكتاب والسنة مجتمعين, وإن ما أجمله القرآن من أحكام قامت السنة بتفصيله وتبيينه, مثلما هو الحال في العبادات, مثال ذلك أن القرآن الكريم حمل التكليف بإقامة الصلاة, أما تفصيلات أدائها ابتداء من الاستعداد لإقامها بالطهر والوضوء والنية والتكبير والتلاوة والركوع والسجود والتشهد والتسليم, فإن ذلك كله قد جاء موضحا في السنة الشريفة, في قول الرسول e: " صلوا كما رأيتموني أصلي " وقد كان هذا الحديث هو ردى . في أحد المؤتمرات .على من أنكر السنة, وكانت شخصية مشهورة من الحكام العرب قد أنكر السنة في كلمته التي افتتح بها المؤتمر, واردفت بعد ذكر حديث رسول الله e قائلا: " لولا السنة ما صلينا, هذا فضلا عن حجج أخرى سقناها يومئذ, وتمخض عن هذا الرد تداعيات تضمنت بعض الإساءات ليس هنا موضوع لذكرها.
نعود إلى السنة الشريفة, وقد قال عنها يحيى بن معين في أسلوب متشدد: السنة حاكمة على الكتاب فرد عليه الإمام أحمد . وكانا صديقين . قائلا: أنا لا أقول ذلك, وإنما أقول إن السنة مبينة للكتاب مما يدل على أدب الإمام أحمد في تعامله مع كل من الكتاب والسنة.
فالكتاب العزيز مجد العلم من أول آية نزلت, واحتل العلم بضعا وخمسين, وثمانمائة آية على ما أسلفنا في صفحة سابقة, وانتقل الرسول من تمجيد العلم والحض على طلبه إلى درجة أعلى من ذلك حين جعل طلبه فريضة على المسلمين جميعا, ذلك في قوله الشريف " طلب العلم فريضة
بذلك صار طلب العلم فريضة كالصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد, ولكنه فرض كفاية في حالات بعينها, ولا نزال نكرر أن المقصود بالعلم الذي تضمنته الآيات القرآنية والسنة النبوية هو العلم بكل فروعه وأشكاله وأهدافه.
ففي العلم يقول رسول الله e: "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة" رواه مسلم.
"إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أوعلم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له" رواه مسلم.
"الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاه ـ أي طاعة الله ـوعالما ومتعلما" رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
"من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع" رواه الترمذي وقال ": حديث حسن.
"فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم".
"إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير" رواه الترمذي وقال حديث حسن.
"من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة . يعني ريحها" رواه أبو داود بإسناد صحيح.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: "سمعت رسول الله e يقول: "إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس, ولكن يقبض العلم بقبض العلماء, حتى إذا لم يبق عالما, اتخذ الناس رءوسا جهالا "فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا" الترمذي باب العلم 2673, ومتفق عليه
إن ما عرضناه من دراسة وأمثلة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية في الفصل السابق, تفيد أن العلم الذي ذكر في طياتها هو العلم العام, وهو . مثله في ذلك مثل العلم الديني . ما يعنيه الإسلام من تعلمه والسعي إلى طلبه, وربما فسرت بعض الأحاديث التي ذكرناها العلم الديني مع العلم العام المطلق, غير أن عددا آخر من أحاديث رسول الله قد استهدفت طلب العلم الديني والسعي في طلبه, ويجيء في مقدمة هذه الأحاديث قول رسول الله e : "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين وإنما أنا قاسم والله يعطي,ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله".
وليس من شك في أن هذا الحديث الشريف مستلهم من قول لله سبحانه وتعالى في هذا الشأن: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة, فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون " (التوبة/ 122).
والعلم الديني مقدم بطبيعة الحال على سائر فروع المعرفة لأن أوليات التعاليم الدينية هي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله, والإيمان بالله الواحد وبمحمد نبيا ورسولا وبالقرآن كتابا نزل به الروح الأمين على قلب محمد خاتم المرسلين, وإن علما آخر أيا كانت قيمته مرجوحا بعلم الدين الذي يهئ الإنسان للحياة المثلى في الدنيا ولحسن الجزاء في الآخرة.
وتحتل أحاديث رسول الله e التي اختص بها القرآن الكريم وفضائله دراسة وحفظا وتلاوة وتفسيرا مكان الصدارة بين سائر أحاديثه, وفي ذلك يجيء قوله الشريف: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليه السكينة, وغشيتهم الرحمة, وحفتهم الملائكة, وذكرهم الله فيمن عنده" رواه مسلم.
وقوله : "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" رواه البخاري.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة, والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران" متفق عليه.
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي e قال: "إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين" رواه مسلم.
وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال : "من قرأ حرفا من كتاب الله فله حسنة, والحسنة بعشر أمثالها, لا أقول ألم حرف, ولكن ألف حرف ولام حرف وميم حرف" رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح.
ومن أحاديث العلم الديني ." بعد أحاديث القرآن الكريم . قوله صلى الله عليه وسلم "من يرد الله به خيرا يفهمه,وإنما العلم بالتعلم ".
"قوله (عن زيد بن ثابت: "نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه, فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه, ورب حامل فقه ليس بفقيه " عن سنن أبي داود 2 (كتاب العلم)
وقال(:"من طلب العلم كان كفارة لما مضى"(الترمذي كتاب العلم,باب(2) 2648.
عن أبي سعيد الخدري عن النبي e قال: " يأتيكم رجال من قبل المشرق يتعلمون, فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيرا, قال: فكان أب و سعي د إذا رآنا قال: بوصية رسول " الترمذي الحديث رقم 2651.
وإذن فالعلم الديني وقد جاء الحض على تعلمه صريحا, صارت له خصوصية,بتوجيه من كل من القرآن الكريم والسنة النبوية, وصار الغاية التي يسعى في طلبها جمهرة الصحابة, ومن بعدهم انعقدت رئاسته على التابعين الذين قاموا بمهمتهم على أتم وجه وأكمله, ويستطيع الدارس أن يقع على المدارس العلمية العديدة التي أنشأها التابعون من أمثال الحسن البصري 21 ـ 110 هـ وجابر بن زيد 20 ـ 93 هـ وسعيد بن المسيب الذي كان يلقب بسيد التابعين 12 ـ 94 هـ وعامر الشعبي 19 ـ103 هـ وإبراهيم النخعي 46 ـ 96, ونافع مولى عبد الله بن عمر وعطاء بن رباح 27 ـ 117 هـ وسعيد بن جبير 45 ـ 95 وغيرهم كثيرين.
كان هؤلاء وغيرهم يعيشون في نور القرآن الكريم الذي يحث المسلمين على التفكر فيما خلق الله, وكلما ازداد المسلم تفكيرا مستهديا بما نزل به الروح الأمين ازداد إيمانا مثل قوله عز وجل: " الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض, ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار" ويمضي المسلم متابعا قوله تعالى:" ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار, ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا, ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ".
لقد كان هذا الجيل من التابعين يعيش العلم الإسلامي فيما يقرأه ويسمعه من الآيات التي تنير فكره بما يعمق إيمانه فيزداد إقبالا على العيش في نور ما لم يألف سماعه من معجز القول ومفحم الخطاب مثل قوله تعالى: " يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا, ثم لتبلغوا أشدكم, ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا, وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج " (الحج/ 5).
ويقرأ المسلم آيات أخرى تبهر عقله وتنير قلبه فيصير إما عالما وإما متعلما, فقد عرف من حديث رسول الله e أن طلب العلم فرض عليه حتى في أيام الحروب حيث يتحتم أن يتخلف بعض ذوي العلم لكي يقوموا على تعليم إخوتهم من المسلمين.
وفي سرعة غير مسبوقة يتفرع فريق من علماء المؤمنين لتفسير القرآن الكريم ويجلس فريق آخر لتعليم فقه الإسلام.
فأما فريق المفسرين فكانوا امتدادا لما قام به الصحابي الجليل عبد الله بن عباس من محاولات وصلت إلينا تحت مسمى "تنوير المقباس من تفسير ابن عباس, ولم يكن إقبال ابن عباس على تفسير القرآن أمرا غريبا, فالقرآن الكريم هو كلام الله عز وجل حمله الوحي الأمين ونزل به على محمد e ومن ثم فهو كتاب الإسلام الذي منه تستمد الشريعة وتؤخذ الأحكام, وهو الكتاب المعجز الذي تحدى العرب . وهم قمم البلاغة . أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا, وكان عجزهم عن ذلك سببا لإسلام أكثرهم بلاغة وأوفرهم فهما وعدلا.
على أن ثمت مجموعة من التابعين عرفوا بجهودهم في تفسير الكتاب العزيز, ولكن آثارهم في هذا الشأن لم تصل إلينا مثل مجاهد بن جبر 29 ـ 104 هـ وسعيد بن جبير, وطاووس بن كيسان المتوفي 106 هـ , وأبي عمرو عامر الشعبي وعطاء بن أبي رباح 27 ـ 74 ولكن الأمر المؤكد هو أن أول تفسير كامل للقرآن الكريم هو ما قام به مقاتل بن سليمان المتوفي سنة 150 هـ , وهي السنة التي توفى فيها الإمام أبو حنيفة, وهذا التفسير قام على تحقيقه صديقنا العالم الجليل الدكتور عبد الله شحاته وإن لم تهيأ له أسباب النشر حتى الآن.
ولأن تفسير القرآن ليس بالأمر الهين إذ أنه لا بد من توفر شروط بعينها فيمن يتصدى لتفسير الكتاب العزيز, لذلك قل عدد المفسرين إذا قورن بعدد المحدثين والفقهاء, أما وإن " التفسير " يجيء على رأس العلوم الدينية, فإنه يجمل بهذا البحث أن يسجل
أشهر المفسرين وأسماء . عناوين . تفاسيرهم على الترتيب الزمني حتى القرن العاشر الهجري.
ـ جامع البيان في تفسير القرآن للطبري المتوفى 310 ه
ـ بحر العلوم لأبي الليث السمرقندي المتوفى 375
ـ الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي المتوفى 427
ـ معالم التنزيل للبغوي الشافعي المتوفى 510
ـ المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية الأندلسي المتوفى بالرقة سنة 546
ـ الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل للزمخشري المتوفى بخوارزم سنة 583
ـ مفاتيح الغيب للفخر الرازي المتوفى سنة 606
ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي المتوفى بمدينة المنيا (مصر) سنة 671
ـ أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي المتوفى سنة 691
ـ مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي المتوفي 701
ـ لباب التأويل في معاني التنزيل للخازنالمتوفى 741
ـ البحر المحيط لأبي حيان الغرناطي الأندلسي المتوفى بمصر 745
ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير المتوفى 774
ـ غرائب القرآن ورغائب الفرقان للنيسابوري المتوفى على رأس المائة التاسعة.
ـ مجمع البيان لعلوم القرآن للطبرسى المتوفى 835
ـ الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي الجزائري المتوفى 876 ـ الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي المتوفى 911
ـ تفسير الجلالين: المحلى للسيوطي
ـ السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير للخطيب الشربيني القاهري الشافعي المتوفى 977
تلك اشهر التفاسير القرآنية التي كتبت حتى نهاية القرن العاش ر الهجري ولكن مكتبة التفاسير القرآنية ثرية بعشرات التفاسير النفيسة على مسيرة التاريخ وبخاصة في القرن الرابع عشر الهجري المنصرم والأعوام العشرين التي انصرمت من هذا القرن الواحد والعشرين بعد الأربعمائة والألف.
وفي نطاق مسيرة العلم الديني يظهر علم السنة الذي يتمثل في جمع أحاديث رسول الله e وشروحها, وقد كان من أوائل من دونوها الإمام مالك في كتابه الجليل " الموطأ " باقتراح من الخليفة أبي جعفر المنصور العباسي ويليه كتاب " المسند " للإمام أحمد بن حنبل ثم ظهر بعد ذلك ما يعرف بالكتب الستة التي أشهرها " الصحيحان " وهما صحيح البخاري للإمام الحافظ إسماعيل البخاري المولود في بخارى سنة 194 هـ المتوفى سنة 259 هـ وصحيح مسلم للإمام الحافظ مسلم بن الحجاج القشيرى النيسابوري 204 . 261 هـ , وقد عكف على دراسة الصحيحين وشرحهما عشرات من كبار علماء الحديث غير أن أشهر من شرح صحيح البخاري هو الإمام الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني المصري 773 ـ852 بكتابه النفيس " فتح الباري في شرح صحيح البخاري " ويقع في واحد وعشرين مجلدا كبيرا, وشهاب الدين أحمد بن محمد القسطلاني 851 ـ923 في كتابه النفيس " إرشاد الساري في نشر صحيح البخاري " وأشهر من شرح صحيح مسلم الإمام الحافظ محيي الدين أبو زكريا يحيى بن شرف النووي في 631 ـ676 هـ ويقع في تسعة مجلدات.
وأما بقية الكتب الستة فهي: سنن أبي داود لأبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني 202 ـ 275 وسنن ابن ماجة لمحمد بن يزيد القزويني المشهور بابن ماجه 207 ـ 275 هـ والجامع الصحيح للترمذي أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة 209 ـ 297 هـ وسنن النسائي لعبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي 215 ـ 303 هـ
هذا فضلا عن مئات كثيرة من الكتب التي ألفها علماء السنة من الحفاظ والرواة.
ويجيء بعد ذلك ما بذله الأئمة الفقهاء من أصحاب المذاهب التي اشتهرت بين الناس فاتبعوها في عبادتهم ومعاملاتهم وشئون حياتهم, وأشهرهم حسب الترتيب التاريخي الإمام زيد بن علي زين العابدين 122 هـ والإمام جعفر الصادق المتوفى 148 هـ وأبو حنيفة النعمان بن ثابت إمام العراق المتوفى سنة 150 هـ وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي إمام الشام المتوفى 157 والليث بن سعد إمام مصر المتوفى سنة 175 ومالك بن أنس إمام دار الهجرة المتوفي 179 هـ ومحمد بن إدريس الشافعي المتوفي بمصر سنة 204 هـ ثم أحمد بن حنبل إمام العراق المتوفى 241 هـ .
وهناك مذاهب فقهية لأئمة لم يكتب لفقههم أن ينتشر لأسباب هم غير مسئولين عنها مثل سفيان الثوري 161 هـ , وأبي ثور الكلمة محظورةي 220 هـ وداود الظاهري 270 وأبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير وكتابه المشهور في التاريخ ونحن غير ذوي قدرة على الاستطراد في الحديث عن العلم الديني وأئمته وعلمائه إذ ليس ذلك موضوع البحث المحدد ولكن نستطيع أن نسجل للعلماء الذين توفروا على التخصص في الموضوعات الثلاثة التي تناولناها كمثال على العلم الديني إنهم تبحروا في موضوعاتهم عمقا واتساعا بحيث أنشأوا ما قد اصطلح عليه بعلوم القرآن كما ابتكروا في " السنة " علما جديدا هو علم مصطلح الحديث, وهو علم غير مسبوق أدهش المستشرقين والدارسين في الإسلام من غير المسلمين بمنهجيته ودقته والمراتب التي وضعوها لرواية الأحاديث التي وصلوا بها إلى أربعة وستين نوعا (11, وقد تمخض علم مصطلح الحديث عن علم آخر هو علم الجرح والتعديل, كما وضعوا كتبا في مصطلح الحديث (12).
وقبل أن يضع علماء الحديث كتبهم في علم أصول الحديث, كان الإمام الشافعي قد سبقهم إلى وضع علم جديد هو علم أصول الفقه, وضع أسسه في كتابه القيم "الرسالة"
(13) ثم نسج على منواله كثير من علماء هذا الفن الدقيق,وقد أخذت دائرة العلوم الدينية في الاتساع فنشأت علوم من الأهمية الإسلامية بمكان مثل علم إعجاز القرآن وقد توسع المؤلفون فيه ابتداء من الإعجاز البلاغي إلى الإعجاز البياني إلى الإعجاز العلمي إلى الإعجاز الكوني (14).
ومن العلوم الإسلامية التي احتلت مكانا مرموقا عند المسلمين علم السيرة النبوية الذي ألفت فيه ألوان من الكتب المتنوعة النهج والمحتوى ثم تلا ذلك علم الحضارة الإسلامية الذي شارك فيه المستشرقون بالعديد من الكتب التي لم يخل بعضها من أخطاء مقصودة حينا وغير مقصودة حينا آخر.
لم يلبث علماء الدين,وقلوبهم مطمئنة إلى أن العلم في الإسلام يشمل العلم الديني والعلم العام أن فتحوا عقولهم وقلوبهم لأصناف المعرفة وأنواع العلوم,فنشطوا إلى الجمع بين العلم الديني والعلم الدنيوي إن صح التعبير.
إن الكندي (يعقوب بن إسحاق) المتوفى سنة 260 يعد من أوائل المسلمين الذين جمعوا بين الثقافة الإسلامية وعلوم الأوائل, فقد ندبه الخليفة المعتصم مؤدبا لولده أحمد وما كان المعتصم ليقدم على هذا الصنيع لولا ثقته في الكندي من زاوية المعرفة الإسلامية مضافا إليها العلوم الأخرى على اختلاف أنواعها, ومؤلفاته فيها تزيد عن ثلاثمائة كتاب, وهو أول عربي فرض نفسه على هذه العلوم ووجه الفلسفة وجهة إسلامية ومهد لها سبيل الانتشار بين العرب, ومكن للمسلمين من ولوج هذا الباب, وللكندي عدد غير قليل من الكتب المطبوعة التي تشمل علوم التنجيم وما هية العقل, والقول في النفس ورسالة في الموسيقى ورسالة نفيسة كتبها لأحمد بن المعتصم ومن علماء الإسلام (القرآنيين) الذين جمعوا بين العلم الديني والعلم الدنيوي استجابة لمفهوم عمومية العلم _ أبو حنيفة الدينوري المتوفى سنة282 هـ الذي كان مجمعا للثقافات, فهو نحوي, لغوي مفسر, راوية ثقة, وهو بالإضافة إلى ذلك حاسب منجم مهندس وكان ندا للجاحظ وكما عرف الجاحظ بكتابه البيان والتبيين والمبرد بالكامل وثعلب بالمجالس فقد عرف أبو حنيفة الدينوري بكتابه (النبات) وله كتاب في تفسير القرآن ودراسته في ثلاثة عشر مجلدا مع ورع وزهد وجلالة قدر (15) ومن كتبه: كتاب ما يلحن فيه العامة وكتاب الشعر والشعراء وكتاب الفصاحة وكتاب الأنواء وكتاب الجبر والمقابلة وكتاب البلدان وكتاب الأخبار الطوال (مطبوع) وكتاب إصلاح المنطق وكتاب القبلة والزوال وكتاب تفسير القرآن (16) فهو والأمر كذلك جمع بين الشريعة والفقه والبيان العربي, وبين فن المهندس وانفساح الجغرافي وثقافة المؤرخ وأوابر اللغوي.
وعلى نهج قريب من هذا سار أحمد بن سهل المعروف بأبي زيد البلخي المتوفى سنة 322 هـ أحد وجوه الثقافة الاسلامية واعلامها