تاسعا - الثورات
نشبت من الثورات في العصر العباسي الثاني بين عامي 255 و 366هـ ما يزيد على خمسين ثورة, منها ما كان ثورة على الحكم, ومنها ما كان انتقاضا على الحاكمين, من خليفة وسلطان.
وكان أهم الثورات خطرا في أسبابها ونتائجها ثورتان هما: ثورة عرفت باسم ثورة الزنج وثورة القرامطة.
أ - ثورة الزنج سبق للزنج أن ثاروا سنة 71هـ ثم ثاروا سنة 76هـ لما كان ينالهم من ظلم ملاك الأراضي الذين جلبوهم من شرق إفريقيا لاستصلاح أراضيهم التي كان يغمرها شط العرب بدفع مد مياه الخليج العربي ويترك في سطحها طبقة من الأملاح. وقد قمع الحجاج, أمير العراق, الثورتين.
ثم قامت لهم ثورة عارمة في عهد الخليفة المعتز بالله. قادها رجل فارسي دعا نفسه محمد بن علي وزعم أنه علوي النسب وتروي الروايات, أنه قدم من الأهواز سنة 255هـ ونزل في منطقة تقع في جنوب العراق تعرف بالبطائح أو السباخ كان يقوم باستصلاحها الزنوج الإفريقيون, وكانوا يلاقون ظلما مريرا من أصحاب الأراضي التي كانوا يقومون باستصلاحها. فاندس فيهم ذلك الرجل وادعى أنه من آل البيت, ودعاهم لاتباعه ليحررهم من الرق, وينجيهم من عذاب أسيادهم, وأخذ يظهر لهم, بما أوتي من ذكاء وسعة حيلة, أعمالا فيها كثير من الشعوذة وينبئهم بأخبار يزعم أنها من الغيب.
وقد أقام دعوته على دعوة الخوارج وهي المساواة بين المسلمين . وقد استجاب له الأعراب الذين كانوا يسكنون في بوادي البصرة وأكثرهم ممن كان المعتصم أخرجهم من ديوان الجيش وأبدلهم بجند من الأتراك, وقد اضطرهم شظف العيش إلى شن الغارات على القرى واعتراض قوافل الحجاج, ينهبون ويسلبون, كذلك انضم إليه جموع من الفقراء والمستضعفين, وقد أغراهم بما يطمع فيه الفقراء, الذين ضمر في قلوبهم الشعور بالإيمان وتراخت عقيدتهم, فأباح لهم شيوعية الأموال والنساء, وهي عقيدة مزدك الفارسي, فاجتمعوا عليه مخلصين له مؤمنين بدعوته.
وقد عرف القائم بتلك الدعوة, الناظم لتلك الجموع الغفيرة بصاحب الزنج, لأن العدد الغالب من أتباعه كان منهم, ولأنهم أول من استجاب لدعوته, فاستولى على البحرين والأحساء, ثم توجه صعدا إلى البصرة . وفي شوال سنة 257هـ أغار على تلك المدينة وهي غافلة, فداهمها بجموعه وأمعن أتباعه فيها نهبا وسلبا وقتلا وتحريقا, فلم يسلم من أهلها إلا من هرب وهام على وجهه يلتمس النجاة.
وأوى من ظل في المدينة إلى المسجد الجامع ظنا منهم أنهم يأمنون فيه على أرواحهم, لكن الثائرين ما لبثوا أن داهموا المسجد وقتلوا من أوى إليه, ثم اقتحموا البيوت وقتلوا الأطفال وسبوا النساء, وفيهم كثير من شرائف العلويات, فتقاسمهم الآسرون, ومن دخلت في سهمه استخدمها وفجر بها وباعها, حتى بلغت قيمة العلوية ثلاثة دراهم .
ثم أحرقوا البصرة فأضحت معالمها أطلالا. وقد نظم ابن الرومي في مأساتها قصيدة وصف فيها ما حل بها وبأهلها من قتل ودمار وصفا مؤثرا, تدمع له العين وينفطر له القلب . وبعد خراب البصرة توجه صاحب الزنج بأتباعه إلى الأهواز وهزم الحملات التي كان يرسلها الخليفة المعتمد على الله لقتاله.
وبعد ذلك قصد (واسط) وهم بالتوجه إلى بغداد لولا أن الخليفة جمع له جيشا كثيفا قاده أخوه الموفق بالله, فتغلب على صاحب الزنج بعد قتال مرير وتمكن من قتله والقضاء على الفتنة التي أثارها والتي دامت خمس عشرة سنة (255 - 270هـ).
ب - ثورة القرامطة لم تكد تنتهي ثورة الزنج حتى نشبت ثورة أخرى كانت امتدادا لها ومنادية بشعارها وهو مقاومة الظلم والاستبداد ومعلنة مبدأ المساواة بين الناس. وقد عرفت بثورة القرامطة, وتنسب هذه التسمية إلى رجل فارسي عرف بلقب (قرمط), وهو لقب يطلق على القصير, المتقارب الخطا.
أما اسمه فقد اختلف الرواة والمؤرخون فيه, فمنهم من دعاه حمدان الأشعث ومنهم من دعاه الفرج بن عثمان, ولكنهم متفقون على أنه قدم من الأهواز, وظهر في سواد الكوفة سنة 258هـ في موضع يقال له (النهرين) وكانت حرب الزنج ما تزال قائمة على أشدها. وقد غلب على الرجل لقبه فكان يعرف بقرمط وعرف أتباعه بالقرامطة, وقد كان أحد دعاة الإمام الإسماعيلي (المنتظر) الذين بثهم في الأقطار عبد الله بن ميمون القداح, منظم الدعوة الإسماعيلية.
فلما تم القضاء على ثورة الزنج سنة 270هـ اجتمع حوله فلولها وبدأ بما بدأ به صاحب الزنج من إظهار الزهد والتقشف والورع, فجذب إليه قلوب الناس, وكان يخفي وراء هذا السلوك هدفا سياسيا, كان لا بد من دعمه بظاهرة التدين. وقد دعا إلى مذهب فيه مزيج من المزدكية الفارسية واليهودية والنصرانية والإسلام, وحط من شعائر الإسلام فجعل الصلاة أربع ركعات, ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان بعد غروبها, وجعل القبلة والحج إلى بيت المقدس وجعل الصوم يومين في السنة, وهما يوم المهرجان ويوم النيروز وعدل في الأذان, وفرض جزية على من خالفه وأباح قتله إن أمكن ذلك, وأخذ يفسر آيات القرآن بتأويل, بدعوى أن لآياته وأحكامه تأويلا باطنيا يفسر به ظاهرها, ومن ثم عرف مذهبهم بالباطنية.
وادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الرسالة ومن النبوة وسلم الأمر إلى علي بن أبي طالب حين خطب في الناس يوم الغدير فقال: من كنت وليه فعلي وليه, اللهم انصر من نصره وعاد من عاداه فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك تابعا ومحجوبا بعلي. وأن الإمامة المطبوعة بطابع النبوة آلت من بعد علي إلى الحسن والحسين ثم إلى علي زين العابدين ثم إلى محمد الباقر ثم إلى جعفر الصادق ثم إلى إسماعيل ثم إلى محمد بن إسماعيل وهو الإمام السابع.
وقد كثر أتباع قرمط وكثر دعاته فكان منهم زكرويه وولده يحيى والحسين, وأبو سعيد الجنابي وأبو طاهر القرمطي , وقد أقام هؤلاء دولة لهم في القطيف والبحرين واليمن وقادوا حروبا في العراق أرادوا بها انتزاع الخلافة, ونازعوا الفاطميين زعامة الدعوة, فهاجموا قواعدهم في الشام وهموا بمهاجة القاهرة وقد تمكن الفاطميون من صدهم.
وفي سنة 317هـ أغاروا على مكة فقلعوا الحجر الأسود وقتلوا الحجاج, وحملوا الحجر الأسود إلى القطيف عاصمة ملكهم وأعادوه سنة 239هـ لقاء السماح لهم بفرض ضريبة على الحجاج.
ومن تتبع الأسباب التي انطلقت منها ثورة الزنج, ثم ثورة القرامطة والتأمل بنتائجها نجد أنها ترجع إلى سببين مفترقين ومتوازيين.
فالأول منهما هو استغلال الضجر والضيق من استبداد الولاة ومن إرهاق عمال الخراج, يضاف إلى بؤس الفقراء الذين يعانون ألم الجوع والعطالة والحرمان. وكان هؤلاء مع كل دعوة للتحرر من الظلم الذي يحل بهم والضيق الذي يكابدونه.
وقد اختار دعاة الثورة جنوب العراق والمناطق المجاورة له لبعدها عن بغداد وعجز الدولة عن تتبع الثائرين.
والسبب الثاني هو استغلال دعاة الثورة جهل العامة وسلخهم من العقيدة الإسلامية من دعاة يحملون حطام دياناتهم السابقة التي ما زالوا متأثرين بها.
عاشرا - اقتسام الدول العباسية بين المتغلبين
كانت الدولة في أيام بني أمية وحدة شاملة من شرقها الممتد من بلاد ما بين النهرين وحدود الصين والهند إلى مغربها في المغرب الأقصى والأندلس. وكان يحكم أقاليمها ولاة يوليهم خليفة دمشق وإليه يرجعون في أمورهم الهامة, ينفذون سياسته ويحكمون بسلطانه. ولما انتقلت الخلافة إلى بني العباس استقلت بعض الأقاليم بتفويض منهم واستقل البعض الآخر بالغلبة عليهم.
ففي عهد أبي جعفر المنصور استولى عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك سنة 138هـ على الأندلس واستقل بها وأنهى الحكم العباسي وأعاد الحكم إلى بني أمية.
وفي عهد المنصور أيضا أنشأ إدريس بن محمد (النفس الزكية), وهو من أحفاد الحسن بن علي بن أبي طالب دولة الأدارسة في المغرب الأقصى سنة 172هـ.
وفي عام 184هـ أنشأ إبراهيم بن الأغلب بتفويض من الخليفة هارون الرشيد دولة الأغالبة في المغرب الأدنى (تونس).
وفي عام 205هـ أنشأ طاهر بن الحسين بتفويض من المأمون دولة بني طاهر في خراسان مكافأة له لنصرته على الأمين.
فهذه الأقاليم الأربعة انفصلت عن الدولة العباسية, واستقلت عنها, وتداولت الحكم بطريق الإرث. غير أن انفصال بعضها كان يختلف عن انفصال البعض الآخر. ففي دولة بني أمية في الأندلس وفي دولة الأدارسة في المغرب الأقصى, انقطعت الصلة بدولة الخلافة العباسية. أما في دولة بني طاهر ودولة الأغالبة, فلم تنقطع الصلة بها, بل ظلت على ولائها وتبعيتها.
وفي العصر العباسي الثاني انفصلت عن دولة الخلافة الأقاليم الآتية:
ففي سنة 254هـ انفصلت مصر والشام وقامت فيهما دولة أحمد بن طولون وخلفتها دولة الإخشيد
وفي سنة 254هـ قامت دولة بني الصفار في سجستان بزعامة الليث بن الصفار واستولت على خراسان وقضت على دولة بني طاهر.
وفي سنة 261هـ قامت دولة بني سامان في خراسان بزعامة نصر بن أحمد ابن أسد بن سامان وقضت على الدولة الصفارية.
وفي سنة 297هـ قامت في إفريقية دولة العبيديين بزعامة أبي عبيد الله المهدي وقضت على دولة الأغالبة, ثم على دولة بني الأخشيد وامتد حكمها إلى مصر والشام والحجاز.
وفي سنة 320هـ قامت دولة بني بوية في فارس وأصبهان وهمذان والري بزعامة أبناء بوية وهم: الحسن وعلي وأحمد وأبناؤهم من بعدهم. وقامت في الموصل والجزيرة وحلب دولة بني حمدان بزعامة أبناء حمدان بن حمدون التغلبي.
وفي سنة 321هـ قامت دولة الغزنويين فيما وراء النهر بزعامة سبكتكين, أمير غزنة ومن بعده ابنه محمود المعروف باسم محمود الغزنوي فقضى على دولة بني سامان وامتدت دولته إلى الهند.
وفي عام 328هـ لم يبق في يد الخليفة سوى بغداد وسواد العراق, وقد جرد منهما حين استولى معز الدولة البويهي على بغداد سنة 334هـ فلم يبق من الخلافة غير لقبها.
وفي عام 421هـ قامت دولة الترك (الغز) السلاجقة, القادمين من بلاد تركتسان, فأزالت دولة الغزنويين والبويهيين والدويلات الأخرى, بزعامة طغرلبك السلجوقي, وكانت تلك الدويلات قد أضعفتها الحروب التي نشبت بينها, ولم يتكلف السلاجقة كبير عناء في القضاء عليها.
ولما مات طغرلبك خلفه ابن أخيه ألب أرسلان فقامت في عهده وحدة الدولة الإسلامية الممتدة من بلاد ما بين النهرين إلى بلاد الشام غير أن الخلاف ما لبث أن ثار بينه وبين ابن عمه (قتلمش), ونشبت بينهما الحرب سنة 456هـ, وفيها قتل (قتلمش) وأدى قتله إلى انقسام الدولة السلجوقية, فاستقل سليمان بن قتلمش بالأناضول وأقام سنة 470هـ دولة عرفت بدولة سلاجقة الروم (يقصد بها بلاد الروم) وقد اتخذ سليمان (نيقية) ثم (قونية) عاصمة له.
ولما توفي ألب أرسلان انتقلت السلطة إلى ابنه ملشكاه, فأقطع عمه (تتش) بلاد الشام فتوجه إليها وأنهى حكم الفاطميين فيها. ثم أعلن الحرب على ابن عمه سليمان بن قتلمش, ملك سلاجقة الروم, وكان قد استولى على حلب فأراد ملشكاه إخراجه منها وفي المعركة التي جرت بينهما قرب حلب في موضع يقال له (تل السلطان) قتل سليمان وخلف ولدا صغيرا اسمه (داود), فتولى ملكشاه تربيته, ولما شب ولاه مكان أبيه (قتلمش), أميرا على دولة الروم وعرف باسم (قليج أرسلان).
وقد أحدث قتل سليمان, كما أحدث من قبل قتل أبيه قتلمش, انشقاقا بين السلاجقة وأثار بينهم أحقادا, فواجهوا الغزو الصليبي متفرقين, ولو أنهم واجهوه متحدين, لتحولت مسيرة الأحداث وجهة أخرى ولسلمت بلاد الإسلام من غزو ما زالت تتجرع مرارته
نشبت من الثورات في العصر العباسي الثاني بين عامي 255 و 366هـ ما يزيد على خمسين ثورة, منها ما كان ثورة على الحكم, ومنها ما كان انتقاضا على الحاكمين, من خليفة وسلطان.
وكان أهم الثورات خطرا في أسبابها ونتائجها ثورتان هما: ثورة عرفت باسم ثورة الزنج وثورة القرامطة.
أ - ثورة الزنج سبق للزنج أن ثاروا سنة 71هـ ثم ثاروا سنة 76هـ لما كان ينالهم من ظلم ملاك الأراضي الذين جلبوهم من شرق إفريقيا لاستصلاح أراضيهم التي كان يغمرها شط العرب بدفع مد مياه الخليج العربي ويترك في سطحها طبقة من الأملاح. وقد قمع الحجاج, أمير العراق, الثورتين.
ثم قامت لهم ثورة عارمة في عهد الخليفة المعتز بالله. قادها رجل فارسي دعا نفسه محمد بن علي وزعم أنه علوي النسب وتروي الروايات, أنه قدم من الأهواز سنة 255هـ ونزل في منطقة تقع في جنوب العراق تعرف بالبطائح أو السباخ كان يقوم باستصلاحها الزنوج الإفريقيون, وكانوا يلاقون ظلما مريرا من أصحاب الأراضي التي كانوا يقومون باستصلاحها. فاندس فيهم ذلك الرجل وادعى أنه من آل البيت, ودعاهم لاتباعه ليحررهم من الرق, وينجيهم من عذاب أسيادهم, وأخذ يظهر لهم, بما أوتي من ذكاء وسعة حيلة, أعمالا فيها كثير من الشعوذة وينبئهم بأخبار يزعم أنها من الغيب.
وقد أقام دعوته على دعوة الخوارج وهي المساواة بين المسلمين . وقد استجاب له الأعراب الذين كانوا يسكنون في بوادي البصرة وأكثرهم ممن كان المعتصم أخرجهم من ديوان الجيش وأبدلهم بجند من الأتراك, وقد اضطرهم شظف العيش إلى شن الغارات على القرى واعتراض قوافل الحجاج, ينهبون ويسلبون, كذلك انضم إليه جموع من الفقراء والمستضعفين, وقد أغراهم بما يطمع فيه الفقراء, الذين ضمر في قلوبهم الشعور بالإيمان وتراخت عقيدتهم, فأباح لهم شيوعية الأموال والنساء, وهي عقيدة مزدك الفارسي, فاجتمعوا عليه مخلصين له مؤمنين بدعوته.
وقد عرف القائم بتلك الدعوة, الناظم لتلك الجموع الغفيرة بصاحب الزنج, لأن العدد الغالب من أتباعه كان منهم, ولأنهم أول من استجاب لدعوته, فاستولى على البحرين والأحساء, ثم توجه صعدا إلى البصرة . وفي شوال سنة 257هـ أغار على تلك المدينة وهي غافلة, فداهمها بجموعه وأمعن أتباعه فيها نهبا وسلبا وقتلا وتحريقا, فلم يسلم من أهلها إلا من هرب وهام على وجهه يلتمس النجاة.
وأوى من ظل في المدينة إلى المسجد الجامع ظنا منهم أنهم يأمنون فيه على أرواحهم, لكن الثائرين ما لبثوا أن داهموا المسجد وقتلوا من أوى إليه, ثم اقتحموا البيوت وقتلوا الأطفال وسبوا النساء, وفيهم كثير من شرائف العلويات, فتقاسمهم الآسرون, ومن دخلت في سهمه استخدمها وفجر بها وباعها, حتى بلغت قيمة العلوية ثلاثة دراهم .
ثم أحرقوا البصرة فأضحت معالمها أطلالا. وقد نظم ابن الرومي في مأساتها قصيدة وصف فيها ما حل بها وبأهلها من قتل ودمار وصفا مؤثرا, تدمع له العين وينفطر له القلب . وبعد خراب البصرة توجه صاحب الزنج بأتباعه إلى الأهواز وهزم الحملات التي كان يرسلها الخليفة المعتمد على الله لقتاله.
وبعد ذلك قصد (واسط) وهم بالتوجه إلى بغداد لولا أن الخليفة جمع له جيشا كثيفا قاده أخوه الموفق بالله, فتغلب على صاحب الزنج بعد قتال مرير وتمكن من قتله والقضاء على الفتنة التي أثارها والتي دامت خمس عشرة سنة (255 - 270هـ).
ب - ثورة القرامطة لم تكد تنتهي ثورة الزنج حتى نشبت ثورة أخرى كانت امتدادا لها ومنادية بشعارها وهو مقاومة الظلم والاستبداد ومعلنة مبدأ المساواة بين الناس. وقد عرفت بثورة القرامطة, وتنسب هذه التسمية إلى رجل فارسي عرف بلقب (قرمط), وهو لقب يطلق على القصير, المتقارب الخطا.
أما اسمه فقد اختلف الرواة والمؤرخون فيه, فمنهم من دعاه حمدان الأشعث ومنهم من دعاه الفرج بن عثمان, ولكنهم متفقون على أنه قدم من الأهواز, وظهر في سواد الكوفة سنة 258هـ في موضع يقال له (النهرين) وكانت حرب الزنج ما تزال قائمة على أشدها. وقد غلب على الرجل لقبه فكان يعرف بقرمط وعرف أتباعه بالقرامطة, وقد كان أحد دعاة الإمام الإسماعيلي (المنتظر) الذين بثهم في الأقطار عبد الله بن ميمون القداح, منظم الدعوة الإسماعيلية.
فلما تم القضاء على ثورة الزنج سنة 270هـ اجتمع حوله فلولها وبدأ بما بدأ به صاحب الزنج من إظهار الزهد والتقشف والورع, فجذب إليه قلوب الناس, وكان يخفي وراء هذا السلوك هدفا سياسيا, كان لا بد من دعمه بظاهرة التدين. وقد دعا إلى مذهب فيه مزيج من المزدكية الفارسية واليهودية والنصرانية والإسلام, وحط من شعائر الإسلام فجعل الصلاة أربع ركعات, ركعتان قبل طلوع الشمس وركعتان بعد غروبها, وجعل القبلة والحج إلى بيت المقدس وجعل الصوم يومين في السنة, وهما يوم المهرجان ويوم النيروز وعدل في الأذان, وفرض جزية على من خالفه وأباح قتله إن أمكن ذلك, وأخذ يفسر آيات القرآن بتأويل, بدعوى أن لآياته وأحكامه تأويلا باطنيا يفسر به ظاهرها, ومن ثم عرف مذهبهم بالباطنية.
وادعى أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من الرسالة ومن النبوة وسلم الأمر إلى علي بن أبي طالب حين خطب في الناس يوم الغدير فقال: من كنت وليه فعلي وليه, اللهم انصر من نصره وعاد من عاداه فأصبح النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك تابعا ومحجوبا بعلي. وأن الإمامة المطبوعة بطابع النبوة آلت من بعد علي إلى الحسن والحسين ثم إلى علي زين العابدين ثم إلى محمد الباقر ثم إلى جعفر الصادق ثم إلى إسماعيل ثم إلى محمد بن إسماعيل وهو الإمام السابع.
وقد كثر أتباع قرمط وكثر دعاته فكان منهم زكرويه وولده يحيى والحسين, وأبو سعيد الجنابي وأبو طاهر القرمطي , وقد أقام هؤلاء دولة لهم في القطيف والبحرين واليمن وقادوا حروبا في العراق أرادوا بها انتزاع الخلافة, ونازعوا الفاطميين زعامة الدعوة, فهاجموا قواعدهم في الشام وهموا بمهاجة القاهرة وقد تمكن الفاطميون من صدهم.
وفي سنة 317هـ أغاروا على مكة فقلعوا الحجر الأسود وقتلوا الحجاج, وحملوا الحجر الأسود إلى القطيف عاصمة ملكهم وأعادوه سنة 239هـ لقاء السماح لهم بفرض ضريبة على الحجاج.
ومن تتبع الأسباب التي انطلقت منها ثورة الزنج, ثم ثورة القرامطة والتأمل بنتائجها نجد أنها ترجع إلى سببين مفترقين ومتوازيين.
فالأول منهما هو استغلال الضجر والضيق من استبداد الولاة ومن إرهاق عمال الخراج, يضاف إلى بؤس الفقراء الذين يعانون ألم الجوع والعطالة والحرمان. وكان هؤلاء مع كل دعوة للتحرر من الظلم الذي يحل بهم والضيق الذي يكابدونه.
وقد اختار دعاة الثورة جنوب العراق والمناطق المجاورة له لبعدها عن بغداد وعجز الدولة عن تتبع الثائرين.
والسبب الثاني هو استغلال دعاة الثورة جهل العامة وسلخهم من العقيدة الإسلامية من دعاة يحملون حطام دياناتهم السابقة التي ما زالوا متأثرين بها.
عاشرا - اقتسام الدول العباسية بين المتغلبين
كانت الدولة في أيام بني أمية وحدة شاملة من شرقها الممتد من بلاد ما بين النهرين وحدود الصين والهند إلى مغربها في المغرب الأقصى والأندلس. وكان يحكم أقاليمها ولاة يوليهم خليفة دمشق وإليه يرجعون في أمورهم الهامة, ينفذون سياسته ويحكمون بسلطانه. ولما انتقلت الخلافة إلى بني العباس استقلت بعض الأقاليم بتفويض منهم واستقل البعض الآخر بالغلبة عليهم.
ففي عهد أبي جعفر المنصور استولى عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك سنة 138هـ على الأندلس واستقل بها وأنهى الحكم العباسي وأعاد الحكم إلى بني أمية.
وفي عهد المنصور أيضا أنشأ إدريس بن محمد (النفس الزكية), وهو من أحفاد الحسن بن علي بن أبي طالب دولة الأدارسة في المغرب الأقصى سنة 172هـ.
وفي عام 184هـ أنشأ إبراهيم بن الأغلب بتفويض من الخليفة هارون الرشيد دولة الأغالبة في المغرب الأدنى (تونس).
وفي عام 205هـ أنشأ طاهر بن الحسين بتفويض من المأمون دولة بني طاهر في خراسان مكافأة له لنصرته على الأمين.
فهذه الأقاليم الأربعة انفصلت عن الدولة العباسية, واستقلت عنها, وتداولت الحكم بطريق الإرث. غير أن انفصال بعضها كان يختلف عن انفصال البعض الآخر. ففي دولة بني أمية في الأندلس وفي دولة الأدارسة في المغرب الأقصى, انقطعت الصلة بدولة الخلافة العباسية. أما في دولة بني طاهر ودولة الأغالبة, فلم تنقطع الصلة بها, بل ظلت على ولائها وتبعيتها.
وفي العصر العباسي الثاني انفصلت عن دولة الخلافة الأقاليم الآتية:
ففي سنة 254هـ انفصلت مصر والشام وقامت فيهما دولة أحمد بن طولون وخلفتها دولة الإخشيد
وفي سنة 254هـ قامت دولة بني الصفار في سجستان بزعامة الليث بن الصفار واستولت على خراسان وقضت على دولة بني طاهر.
وفي سنة 261هـ قامت دولة بني سامان في خراسان بزعامة نصر بن أحمد ابن أسد بن سامان وقضت على الدولة الصفارية.
وفي سنة 297هـ قامت في إفريقية دولة العبيديين بزعامة أبي عبيد الله المهدي وقضت على دولة الأغالبة, ثم على دولة بني الأخشيد وامتد حكمها إلى مصر والشام والحجاز.
وفي سنة 320هـ قامت دولة بني بوية في فارس وأصبهان وهمذان والري بزعامة أبناء بوية وهم: الحسن وعلي وأحمد وأبناؤهم من بعدهم. وقامت في الموصل والجزيرة وحلب دولة بني حمدان بزعامة أبناء حمدان بن حمدون التغلبي.
وفي سنة 321هـ قامت دولة الغزنويين فيما وراء النهر بزعامة سبكتكين, أمير غزنة ومن بعده ابنه محمود المعروف باسم محمود الغزنوي فقضى على دولة بني سامان وامتدت دولته إلى الهند.
وفي عام 328هـ لم يبق في يد الخليفة سوى بغداد وسواد العراق, وقد جرد منهما حين استولى معز الدولة البويهي على بغداد سنة 334هـ فلم يبق من الخلافة غير لقبها.
وفي عام 421هـ قامت دولة الترك (الغز) السلاجقة, القادمين من بلاد تركتسان, فأزالت دولة الغزنويين والبويهيين والدويلات الأخرى, بزعامة طغرلبك السلجوقي, وكانت تلك الدويلات قد أضعفتها الحروب التي نشبت بينها, ولم يتكلف السلاجقة كبير عناء في القضاء عليها.
ولما مات طغرلبك خلفه ابن أخيه ألب أرسلان فقامت في عهده وحدة الدولة الإسلامية الممتدة من بلاد ما بين النهرين إلى بلاد الشام غير أن الخلاف ما لبث أن ثار بينه وبين ابن عمه (قتلمش), ونشبت بينهما الحرب سنة 456هـ, وفيها قتل (قتلمش) وأدى قتله إلى انقسام الدولة السلجوقية, فاستقل سليمان بن قتلمش بالأناضول وأقام سنة 470هـ دولة عرفت بدولة سلاجقة الروم (يقصد بها بلاد الروم) وقد اتخذ سليمان (نيقية) ثم (قونية) عاصمة له.
ولما توفي ألب أرسلان انتقلت السلطة إلى ابنه ملشكاه, فأقطع عمه (تتش) بلاد الشام فتوجه إليها وأنهى حكم الفاطميين فيها. ثم أعلن الحرب على ابن عمه سليمان بن قتلمش, ملك سلاجقة الروم, وكان قد استولى على حلب فأراد ملشكاه إخراجه منها وفي المعركة التي جرت بينهما قرب حلب في موضع يقال له (تل السلطان) قتل سليمان وخلف ولدا صغيرا اسمه (داود), فتولى ملكشاه تربيته, ولما شب ولاه مكان أبيه (قتلمش), أميرا على دولة الروم وعرف باسم (قليج أرسلان).
وقد أحدث قتل سليمان, كما أحدث من قبل قتل أبيه قتلمش, انشقاقا بين السلاجقة وأثار بينهم أحقادا, فواجهوا الغزو الصليبي متفرقين, ولو أنهم واجهوه متحدين, لتحولت مسيرة الأحداث وجهة أخرى ولسلمت بلاد الإسلام من غزو ما زالت تتجرع مرارته